غيابه

كلمات من المأتم

لبنان بدون انطون قازان بقلم الاستاذ جورج غريّب

لبنان بدون أنطون قازان

لأول مرّة، بعد خمس وأربعين سنة، لبنان بدون أنطون قازان… هل سيحزن الزّهر بعد اليوم، ويحزن القضاء، وتحزن الرّيشة ويحزن الشرق؟ … كلمات ستلبس الحزن بعده.. لوقت طويل.

لقد غابت أخيلتنا عنه، لكنّ أخيلته عنّا لن تغيب… سأراه على مقاعد التلمذة، في قصر العدل، في المنابر، في الترف الصنعانيّ، في الصّداقة والعنفوان.

سأراه في الكنيسة، في المقهى، في غرفة الشاطئ الصغيرة، في معتكف الجبل العالي، في الكأس وسمر الكأس، في الهاتف وجرس الهاتف.

سأراه يغرس أنمله في جيبه الصغير، يتلمّس أيقونة هناك، ليرسم شارة الصّليب، ويُمرّ أصابعه النديّة على صورٍ قدسيّة، وتماثيل علويّة، موزّعة في مختلف زوايا المنزل الفسيح، ليرسم شارة الصّليب، ويتحسّس تمثال العذراء في السيّارة كلّما كان إلى جانبي، ويلوّح بيده في الفضاء كلّما مررنا بجوار بيت العبادة.

من الأشياء التي لم يعرفها أحد عنه: كيف مات، وكيف كتب..

لم يمت من جرّاء داء، إنّما مات لأنّ كبده عصرها الحنان فجفّت… وعروقه ناءت بدفق الدماء فتقطّعت… وقلبه الكبير تعب من الحمل الثقيل فتوقّف… وعينيه شبعتا من ارتياد المشارف فوهت منها الجفون… وفمه ملّ التغريد فأُطبقت منه الشفتان… والأرض ضاقت بأحلامه الكبار فلاذَ بالسّماء…

من الأشياء التي لم يعرفها أحد عنه: كيف مات وكيف كتب…

كان كلّما قال لي: “نُعدّ كلمة” خشعت أمام صراع ينتظرنا في غرفة الشاطئ الصغيرة… وهناك كنت أشهد ولادة الرّائعة: أوراق ينتزعها من جيوبه.. يرمي بها إلى الطاولة، عليها أفكار مرقّمة دوّنها عبر أويقات متقطعة، في غفلة من العمل المهنيّ المضني، وجاء بها فُتات عطر، نثير تبر، فيقف أمامها في بحران، يقلّبها، يبعثرها، يطوف بأرقامها على غير هداية، يمحو ويضيف ويتأمّل، وأنا أمام الأوراق البيضاء، والقلم بيدي، أنتظر منه البوح قطراتٍ ترشح، أنفاسًا تتردّد، لواعجَ تذوب، تماثيل تُنحت، مهرجاناتٍ تكوكَب؛ نقف عند الفكرة، عند التركيب، عند الكلمة، عند الحرف، عند الهمسة، حتى إذا تعبَ، وتعبتُ، وتعب الليل وهدير الموج، أرجأنا العمل إلى موعد آخر، إلى صراع مع الإبداع آخر .

إنّ أطباق الذهب، التي قدّم عليها الحجارة الكريمة، كانت وليدة الضَّنى، والوضع الممضّ، والصنيع العالي، والشمول الفكريّ المذهل، والأناقة التي رافقته في مأكله ومشربه، في ملبسه ومسكنه، في حبّه وصداقاته، في مهنته ومعشره، في عمله وثقافته، فكأني به، كغزلان الصين، أقتات من أفاويه الأزاهر.. فكان المسك عنبريًّا.

أنطون قازان مات! لست أدري كيف أقولها، كيف تسرّبت إلى المسامع، كيف ضجّت في الأفواه.. وتلفّظت بها الشفاه، كيف غمرت الزوق وكسروان ولبنان ودنيا العرب…

أنطون قازان مات…

مات في الرّيح، في الموج، في السيف، في البطولة، في الأشرعة والمجاذيف وملحمة الانتشار. مات في الإباء والأنفة، في أجنحة النسور وحناجر الحساسين، في السّخاء والأريحيّة والبذل والعطاء والتُّقى، مات في العدالة والحقّ والضمير، في راحتَي ميزانٍ ما استلهم غير السّماء… مات في الحرف المعنّف، والرّيشة المدلّلة، في تماثيل الرخام والمرمر، في المعرفة والعمق الثقافيّ والاتّساع الفكريّ، في التهاب الورق وندى الرقاع، في طموح قدموس وشاطئ الأبجديّة… مات في الإنسان، في صورة الله، في النهوض إلى الأمثل، في البناء الخلقيّ، في شموخ القيم… مات في لبنان، في عبادة الوطن، في شلح أرزة، في ترابةٍ تقدّس، في مصير يُذاد عنه، في مشارف تشرّع لنا خريطة العالم… مات في الورد، في الزنبق وخصور الزنبق، في الصفصاف والشربين، في عيون الحبيبات وصنوبرات المنحنى، في صدور الأصدقاء ومسامع المحبّين، في الغيبوبة والقلب الكبير… مات في الكبد المقرّحة… مات في انفجار العبقريّة… مات موت العافية.

فيا رفيق ربع قرن!

موكب مَن هذا العائد إلى الزوق.. يلتهب النعش فيه على الأذرع المتعالية، الأذرع التي جُنّت، أذرع الشباب الذين كانوا بانتظارك ليُرقصوا نعشك ويقذفوا به في العلاء، ويتمسّكوا به كي لا يبتلعه التّراب.

خيّل إليّ أنّ على هذا النعش تهاوت أحلام، وتهاوت أمنيات، وتهاوت أعلام، وأوسمة، وأبنية بعلبكيّة، وأغمار ياسمين.

لقد هبّ إلى لقياك دنيا من الذكريات الحبيبة الهاجعة تحت كلّ ترابة: “ألصنوبرات الأربع، المرسح، النبعة، القهوة القديمة.. وميستها، ومشروبها الملوّن”.

هبّ إلى لقياك أحبّة في الأحياء، وأعزّة في الأموات، وسهرات الشتاء، وأيّام المواسم والأعياد، وما يتبعها من طيّبات.

هبّ إلى لقياك الأكمات السّبع، وحلقات الآباء والأجداد الجبابرة الذين عاشوا في عزّ، ومروءات لبنانيّة، وتقاليد عربيّة، وعنفوان زوقيّ لا يترك قيدًا في يد أسير يمرّ على الديار الشامخة.

هبّ إلى لقياك ضجّة الأنوال، وولادات البدائع، وهجرة راحت تجالد الزمن، وطاولات العمالقة، ورخامات القداسات …

هبّ إلى لقياك بلاطات الأديرة، وفسحة العذراء، وساحة مار ضومط، وباحة مار جرجس، وأجراس جُنّت في عظاتها فغنّت في الفضاء.

سألني إخوانك، وإخواني الكثر، في ذلك اليوم الأسود، على الأرض التي أنشأتنا، أن أودّعك.. وقد كنت وإيّاك على موعد، أن أرثيك.. وأنا خطيب عرسك، أن أبكيك.. وأنت البسمة على شفتي، فيبست الكلمات في صدري.

طالما كان يروقك الإعلان، في كلماتك عنّي، أنّ دَيْنًا لي عليك، فليتك عرفت أنّ دَينك عليّ كان أكبر.

أنت ثبّتَّ إيماني بالكلمة، بلبنان، بالإنسان، بالله، فما أحوجني إليك في متابعة الطريق…

أتذكّر، يوم هزّنا الحُسْنُ منذ ثمانية أعوام، فعشت أنت على خفر الاستباحة، وعشت أنا على استباحة الخفر، فإلهة لُوّعت، وإلهة لا تزال تلوَّع.

آمالك الكبيرة لم تذهب سدًى، فانظر إلى عيون الناس ترَ خيالك فيها… أنظر إلى وجوههم ترَ رذاذ دمك على تلك الوجوه… أنظر إلى أيديهم ترَها تلملم عن الطرقات ذكرياتك، وأضحُ تسمع هدير أنّاتك ينصبّ في الآذان.

إثنان لن يحجباك عني بعد اليوم: الله، ولبنان… فأنت معي في كلّ مرة أصلّي، وستكون معي في كلّ مرّة أغنّي…

إطلالة واحدة، يا أنطون، نستعدْ معها رؤية السحر يتجسّد على المنبر…

 

 

– مقدمة الجزء الثاني من الطبعة الأولى لمجموعة أنطون قازان، بيروت 1974.