غيابه

كلمات من المأتم

كلمة الدكتور خليل الجر

كلمة الدكتور خليل الجرّ

ربّ الـبـيان وسـيّـد الـقـلـمِ                  أدّيـتَ قـسـطـكَ لـلـعُـلـى فـنـمِ

 نبأ وقع علينا وقع الصّاعقة: مات أنطون قازان، ومات الفتى الأسمر، وغاب الوجه الصّبوح، وخبا القلب الكبير، وانطفأت الشّعلة النيّرة وسكت البلبل الصدّاح.

مات رجل المروءة وزين الشّباب، فانتحبت عليه المروءة وبكى الشّباب. فيا لهول النبأ، ويا لفداحة الواقعة ويا للمصاب الأليم. هل كان يصدف أنّ ذلك الذي كان بيننا في مجلس كسروان الثقافيّ من أيّام قليلة خلت ينبض بالحياة ويطفح نضارةً وشبابًا، يحلم للغد ويبني للمستقبل الآمال الغرّاء، أصبح الآن جثّةً هامدةً صرعته المنيّة وتركته فريسة للتراب؟!

أيّ وطنيّ صميم فقد لبنان بفقده، وأيّ خطيب مفوّه فقدته  المنابر، وأيّ شاعر ملهَم  خسره الإلهام في مهبط الوحي ووطن الإلهام؟ مَن يا تُرى يعوِّض الخسارة الفادحة التي مُني بها مجلس كسروان الثقافيّ بفقد رئيسه الذي كان قلبه النابض ودماغه المفكّر وعقله النيّر، أعاد إليه الحياة بعد نزاع طويل، ونفح فيه من روحه روحًا جديدًا، ولم يوفِّر في سبيل نموّه واستعادة نشاطه جهدًا ولا عناءً، فتعهّده كما تتعهّد الأمّ أولادها، وعالج شؤونه بتلك الجديّة والرصانة وطول الأناة التي كان يعالج بها كلّ عمل من أعمال حياته؟

وضع جميع إمكاناته في سبيل ازدهاره، فجعل منه مركزًا ناشطًا للإشعاع الفكريّ والفنيّ في هذه المنطقة العزيزة التي أحبّها وأحبّته.. ووقف حياته على خدمتها كما وقفها على خدمة لبنان.

كنّا في اجتماعاتنا به نصغي إليه بتهيّب وإجلال، تستهوينا عذوبة كلامه وتواضعه الذي لا تصنُّع فيه، ذلك التواضع الذي كان يزيده هيبةً ووقارًا، والذي لا نجده إلا عند عظماء الرجال الواثقين من أنفسهم، الذين يعلمون أنّ في التواضع عظمةً لا تدانيها عظمة.

أين لي أن أعطي عن أنطون قازان صورةً صادقةً لا تكون خيانةً في حقّه؟

أين لي أن أجد الكلمات التي تعبّر عن عظمات الرجل بالقلب الطفل والعقل الجبّار، وعن الإنسان الإنسان الذي قضى حياته في جهادٍ مخلصٍ وطموحٍ متواضع، يترفّع عن الدنايا، ويضحّي بذاته في سبيل الحقّ لوجه الحقّ؟

كلّ كلمة قال صيغت من معدن الخُلق والصّراحة، وكلّ عمل أنجز لم يتوخَّ من ورائه إلاّ الخير. تجسّمت فيه القيَم في عصر لم يعد للقيَم فيه من معنى، وتدفّق منه الطيب فكان أكثر طيبًا. له نبرة حنون تأخذ بمجامع القلوب، وتستولي على النفوس فتأخذ بها. أفلا يحقّ لنا أن نرثيه  ونذرف عليه  الدموع  سخينة؟  أفلا يحقّ للشباب أن يكتفي بالتوادي في مدى الفكر؟ فالوديعة التي رأينا على الدروب الكوالح بالنيّة الحلوة زرع يديه : أريج حبّ ومنارة متألّقة الأضواء في أهل الفكر في بلاده.

رحمكَ الله يا أنطون وبلّل ثراك بالندى، لقد تركت فينا من عبيركَ ما تعبق به نفوسنا، ومن تغريدكَ ما تنعم به آذاننا، ومن عصارة قلبكَ ودماغكَ ما تتغذّى به قلوبنا وتأتدم أدمغتنا، وذكراكَ خالدة ما دام للفكر النيّر إلى العقول سبيل وللشّعر العذب في القلوب صدًى وترجيع.

إنّنا لهذه الذكرى لحافظون، وللعهد راعون، وللوديعة الغالية التي ائتمنتنا عليها مخلصون.