غيابه

كلمات من المأتم

نثره يصافح الشعر بقلم الاستاذ عصام كرم

نثره يصافح الشّعر

لا، لم تستطع كبده أن تحمل ما أُعطي، فوهنت، ووهن، وكانت الكرائم، بفقده، طليعة الموهونين، العاثرين.

الكرائم.. كيفما قلّبته وقعت منها فيه على الوفير الوفير.

هذا الغنيّ، المتعافي، كان إمام كلمة، وطُلب كمال. فالفكر عنده مواعيد تُضرب مع النورانيّة، والسّبك عنده مواسم إزراء باللجين والنضارة، أما الأداء.. فسبحانك ربّي، كيف تهب بلا حساب!

أنطون قازان!.. به وبأنداده العظام تبدأ المصيبة كبيرة وتظلّ كبيرة، ليبقى منها قبس عبقريّ يقبل من العثرة.. ويهدي من العثار.

هذا النابغة المبكر كان حييًّا خجولاً تكاد كلمة الإطراء تحمّر وجنتيه… والإطراء – عليم الله ! – كان أقلّ أقلّ ما يستحقّ.

دائم الابتسامة كان، لا يطلّ عليك إلا بالعين القريرة والثغر المفترّ، كأنه نفسيّة جُبلت بالغاغ والطلّ في ربيع مستمرّ الرواء واليناع.

حاضر النكتة على أصالة. كبير على التبذّل، نظيف الكفّ والسيرة. محدّث، راوية، مثقّف، مخيف في ثقافته واطّلاعه وشموله. ديك مجلس، وقطب نادٍ.

محامٍ.. أين منه المحامون الكبار! كان يدانيهم بموهبته، فيُحسب له، على القوس، كبير حساب.

وأديب.. مشى في مواكب الحلا مشي الميسورين؛ فالنثر  بلاغة، والشّعر كمال، والسحر حلال.

وصديق.. أخو مودّات. فالبذل بعض شيمه، وحفظ الغيبة ودفء اللسان في الشامخ من سجاياه.

ما وقف وقفة إلا والمنبر في زهو، والسامع في نشوة، والبيان شلاّل دفّاق في جنائن أنيسة التّراب، دانية القطاف، رفيعة الأسوار.

في كرم ملحم كرم قال، وقال في الأخطل الصغير، وفي شبلي الملاّط، فكان، في نثره، يصافح الشّعر الأنيق، وكانت دنيا العرب تردّد قيله مترنّحة الأعطاف، معترفة بأنّ هذا الذي ألف القمّة استطاع أن يسطّح القمّة وقد ضامه، إذ بلغ، العود إلى السفوح .

أنطون قازان سيّد ضخم؛ هذه الصفة كان والدي كرم ملحم كرم يطلقها في الشيخ ناصيف وقد كان يزدهي باليازجيّين، وأنطون يستحقّها اعترافًا منّا بفضله، واعترافًا لنا بأننا ما نزال مهبط أمجاد.

… ويا صديقي!

أيّ قيمة كنت؟

وأيّ قمّة!

ما وقعت فيك إلاّ على الخلال، كأنّ النقص، فيك، وبك، انتفى في هؤلاء الذين جُبلوا من تراب.

أغالي؟

لا.. والله!

هذا رأي الناس في مَن جاء هذه الدنيا ليعيد إلى الناس بعض الثقة بأنّ القيم ما تزال بخير!