غيابه

كلمات من المأتم

كلمة نقيب المحامين الاستاذ وجدي الملاط

كلمة نقيب المحامين الأستاذ وجدي الملاّط

في قمّة مهرجان العطاء أصيب الواهب وسال الدم النجيد، فتوقّف المهرجان، وسقط الصولجان.

ألكلمات – كلّ الكلمات – ما أفقرها وما أتعسها في العزاء بهذا العرش المضيّع.

ألعقول – جميع مواهب العقول – ما أعجز بيّنتها، وما أبطأ حجّتها، في المؤاساة بهذا التاج الأرزيّ المدحرج.

نرثيه أم نرثي أنفسنا على ضياعه؟

نبكيه أم نبكي جِدّنا البائس ونشكو إلى الله الحظوظ العواثر؟

يا وافيًا بالعهود، نكثت عهدك ومزّقت الأواصر، فانفرط  السمط، وتبدّد الشمل، وتبعثرت الحبّات وضاعت اللؤلؤة الفريدة.

يا حامل الزادَين ومتصدّقًا بالقلب واليراع، أين غلالك على البيادر، وأين عسجد القلم، وأين القوت وأين الجود، وأين مَن يروي الظّمأ إلى الينبوع.. ويلوي بهذا الجوع الكاوي في الحشا والفؤاد؟

يا محاميًا تدفّقت المحاماة علمًا زاخرًا في جنانه، وخلقًا وأدبًا على فكره ولسانه، وسحرًا بديعًا في بيانه، ومروءةً وبذلاً في إحسانه، طاولنا فيك السّهى، ودانت لنا بك الرجاحة والسّبْق، ورُفعت ألوية التفوّق، وعلونا حتى لات اعتلاء، وشمخنا حتى لات إباء، ولبست بك الرسالة العصماء أبهى وشاحها ورصّعت سجلاتها بكمالك، فلم يُدْرَ عند المفاضلة أيُّ الضّيائين أسطع، سجلّها أم كتابك .

يا أديبًا خلع الفنّ عليه قشيب ثوبه وجماله، واشرأبّت إليه أعناق  الخالدين، فإذا حياته طواف على راحات الفصحى بين رنّات المثالث والمثاني، وفي عبق مروج الذهب، ونهج الإمام، ومقامات بديع  الزمان، وألمعيّات الحريريّ، وتصوّفات الغزالي، ومونقات إخوان الصفا، وموشّحات الحلل السندسيّة والليالي الأندلسيّة، وأنت وسط هذا الحشد الخالد من النابغين قبلة عين.. لا ثالث ولا ثانٍ في المباني والمعاني، يودّ كلّ عبقريّ منهم ألا تقام المسافة بينك.. وبينه.. وأن ترضى بأن يلقاك لقاء الأنداد الأكفياء.

يا صديقًا طابت به ساعات الحياة، ما كان أندى خدّه وردًا وسعدًا، تضحك الدنيا بثغره، في لهيب توقّده ذوب الفطنة والنهى، وفي صفاء رأيه ونصحه عقل لقمان، وفي تداركه وتحذيره بصيرة قلب  ملهَم، وفي تحسُّبه – إلا لنفسه – هداية أهل الرؤى.

أيها الإنسان الحبيب، شَرُف بك الإنسان، وأشجانا منك رجلان.

لوّعنا رجل ذهب قبل الأوان وأوقد اللظى والحسرة في الصدور لأنّ الزمان سخا به وهو بخيل بمثله، وكأنه ندم بعد حين فأسرع في استرداد ما وهب،

ولوّعنا رجل آخر،  هذا الذي  كانت  تُعَدّ  له  المواعيد  مع  قابل

الأيّام.. والذي لم يعش ليرى هذا الغد الوهّاج.

فالخسارة فيك اثنتان: خسارة ما كان، وخسارة ما لن يكون وما لن تعطيه.. وكان الغد لو أدركته به كفيلا.

أخي، ضاقت بما تحمل الصّدور، وضاقت بنا الأنفاس، ونحن حيالك بذلك في مثل موقف أبي الطيّب حيث يتألم ويقول:

“بنا منك فوق الرمس ما بك في الرمس”.

ألناس في التياع، المحاماة في انتحاب، أدباء لبنان والعرب في ذهول، الزوق المائجة أمّ ثكلى غارقة في الحزن والحداد، أشقاؤك وأهلك تسحق قاماتهم الصّدمة. ها هما أخواك جورج ورزق الله في انهيار، ودونك بشاره، حنانك بشاره الذي يسأل وليس من مجيب: ماذا أفاده تبتُّله في خدمتك وقد أدرت عنه وجهك وتركت حقائبك وهجرت إلى غير إياب؟

فيا أنطون، ظلام الأحداق كثيف في يومك، ولن يخفّف علينا إلا أن تكون كحّلت ناظريك بنور الشمس التي لا تغيب.