كنا على موعد معه في مجلس المتن الشماليّ للثقافة في آخر هذا الشهر ليحدّثنا عن “أثر الكتاب المقدس في الآداب العالميّة”. موضوع ضخم، استهوله بادئ الأمر، لكنني شجّعته على اقتحامه، وقلت له إنه يكاد يكون واحدًا من ثلاثة أو أربعة يستطيعون التصدّي له ويوفقون فيه إلى ما لا يوفَّق غيرهم، لأنني أعرف الكثير عن ثقافته الواسعة، وعن شغفه بالعمل المضني الشاقّ، والجديّة التي تسيطر على كل ما ينهض به من أعباء وينصرف إليه من نشاطات، وعن ولوعه بالكلمة ولوعًا قلّ أن ابتلي به أديب، ولوعًا أذاقه ليالي طوالاً، ولذائذ يعرف طعمها مَن أتيح له أن “يكابدها”.
فإذا به يخلف الوعد والموعد، ويتركنا قبل أن يقول لنا كلَّ ما كان في نيّته أن يقوله. في الشّعر الذي كلف به وهو في ميعة الصبا، فقرأه وحفظه. حفظه ورواه عن القدامى والمحدثين، عن العرب والفرنجة، ثم قاساه، فإذا بشعره، الذي لم يُذَع منه إلا القليل القليل، دليل آخر على أنّ ما من أديب حقيق بهذا الاسم إلا كان شاعرًا حتى في نثره، وحتى في مرافعاته.
وفي النقد وفي الدراسة، وقد مكّنته من الإبداع فيهما ثقافته الحقوقيّة، وحذقه للجدل الهادئ، واطّلاعه الواسع على العديد من النشاطات الفكريّة التالدة والطريفة، العربيّة وعير العربيّة، وإكبابه المتصل على التحصيل، ونهمه الذي لا يشبع إلى القراءة، ونهمه الذي لا يُروى إلى الاستمتاع بكلّ مظاهر الجمال في جميع الفنون، من الموسيقى إلى التصوير إلى النحت، كلّ ذلك في خفر، لا أثر فيه للتصنّع، أُثِرَ عنه في كلّ مراحل حياته، فجمع حوله من القلوب المُحبّة المعجبة ما لم يقدّر لكثيرين غيره.
ومضى قبل أن يتسنّى له أن يحقّق ما كان يعمر به رأسه من أعمال ثقافيّة، وعد بها عندما انتُخب رئيسًا لمجلس كسروان الثقافيّ، في كلمة ألقاها، يومذاك، أعادت الثقافة إلى مفهومها الحقيقيّ، وأشادت بالدور الذي ينبغي أن يكون للثقافة في حياة لبنان، فرجّع أصداء الذين جعلوا من الثقافة، في بلدانهم، قيمة روحيّة خالدة لا تقلّ شأنًا، في حياة الأمم، عن سواها من القيم، مادًّا يده إلى المجالس الثقافيّة القائمة في البلاد – وفي طليعتها مجلس المتن الشماليّ للثقافة – آخذًا على نفسه عهدًا بأن يكون وجوده على رأس مجلس كسروان مثقلاً بالثمار الطيّبة.
آه ابتسامته الحلوة، التي كان ينثرها ذات اليمين وذات اليسار، في أروقة قصر العدل، على زملائه المحامين، فلسوف نفتقدها كلما ارتدينا الثوب الأسود المشوب بالبياض، ورحنا نذرع تلك المماشي الطويلة ذهابًا وإيابًا في انتظار مناداة المباشر، متحدّثين عن كلّ شيء، مهاجمين كلّ إنسان، نظلم قومًا ونعدل بحقّ آخرين، ننقد هذا ونثني على ذاك، في جوٍّ من البراءة المحبّبة، والزمالة الصّديقة والحبور العذب الذي لا نجد له أثرًا في غير قصر العدل وعند المحامين .
سوف نفتقد تلك البسمة عند كلّ ملحة أو طرفة أو بيت من الشّعر نسمعه، وعند كلّ موقف ندعى إلى اتخاذه، وعند كلّ انتفاضة أو ثورة نعقد العزم على إشعالها، أو عند كلّ “انتخاب” أو “جمعيّة عموميّة”… وسوف نفتقد رأيه المشرّب بالمحبّة، والعابق بالإخلاص، وببُعد النظر والترفّع عن كلّ حقد أو ضغن أو تشفٍّ أو شماتة أو انتقام.
وسوف نفتقده أنا وشقيقي سليم، لأننا ربينا معًا، ونشأنا معًا على حبّ الكلمة والمحاماة، وعلى حبّ الوطن الذي كان في نظر أنطون قازان، كما هو في نظرنا، لا أرضًا وحدودًا وتخومًا فحسب، بل روحًا ومُناخًا وآمالاً وسيعة مترامية الأطراف، تطلع علينا مع النهار، ثم لا تلبث أن تذوب مع ألوان النهار لتعود فتطلع علينا في اليوم التالي!